كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [93].
{وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: حنيفة مسلمة: {وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: في الدنيا، سؤال تبكيت ومجازاة، لا استفسار وتفهم، وهو المنفي في غير هذه الآية. أو في موقف دون موقف كما مر.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [94].
{وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} تصريح بالنهي عنه، بعد أن نهى عنه ضمنًا، لأخذه فيا تقدم قيدًا للمنهي عنه، تأكيدًا عليهم ومبالغة في قبح المنهي: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} أي: فتزل أقدامكم عن محجة الحق، بعد رسوخها فيه: {وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ} أي: ما يسوءكم في الدنيا: {بِمَا صَدَدتُّمْ} أي: بصدودكم عن الوفاء، أو بصدكم غيركم: {عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي: في الآخرة.
لطيفة:
تنكير {قدم} للإيذان بأن زلل قدم واحدة عظيم، فكيف بأقدام كثيرة؟ وأشار في البحر إلى نكتة أخرى: قال: الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع فيؤتى بما هو له مجموعًا، وتارة يلاحظ فيه كل فرد فرد فيفرد ماله كقوله: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف: 31]، أي: لكل واحدة منهن متكئًا، ولما كان المعنى: لا يفعل هذا كل واحد منكم؛ أفرد: {قَدَمٌ} مراعاة لهذا المعنى. ثم قال: {وَتَذُوقُوا} مراعاة للفظ الجمع.
قال الشهاب: هذا توجيه للإفراد من جهة العربية، فلا ينافي النكتة الأولى.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِندَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [95].
{وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} أي: لا تستبدلوا بعهد الله وبيعة رسوله عرضًا من الدنيا يسيرًا، وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنُّونهم، إن ارتدوا: {إِنَّمَا عِندَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: من إظهاركم في الدنيا وإثابتكم في الآخرة: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: من ذوي العلم والتمييز.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [96].
{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ} تعليل للخيرية بطريق الاستئناف. أي: ما عندكم مما تتمتعون به، يفرغ وينقص، فإنه إلى أجل معدود محصور مقدر متناه، وما عنده تعالى من ثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع له. فإنه دائم لا يحول ولا يزول: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم} أي: على أذى المشركين ومشاق الإسلام: {بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: بجزاء أحسن من أعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [97].
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} هذا وعد منه تعالى لمن عمل صالحًا، وهو العمل التابع لكتاب الله وسنة رسوله، من ذكر أو أنثى، وهو ثابت على إيمانه إلى الموت، بأن يحييه الله تعالى حياة طيبة.
قال المهايمي: أي: فيتلذذ بعمله في الدنيا فوق تلذذ صاحب المال والجاه، ولا يبطل تلذذه إعساره؛ إذ يرضيه الله بقسمته فيقنعه ويقل اهتمامه بحفظ المال وتنميته، والكافر لا يهنأ عيشه بالمال والجاه؛ إذ يزداد حرصًا وخوف فوات، ويجزون بالأحسن في الآخرة. فلا يقال لهم: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20]. بل يكمل جزاء أعمالهم الأدنى بحيث يلحق بالأعلى. انتهى.
وعندي أن الحياة الطيبة هي الحياة التي فيه ثلج الصدور بلذة اليقين وحلاوة الإيمان والرغبة في الموعود والرضا بالقضاء، وعتق الروح مما كانوا يستعبدون له، والاستكانة إلى معبود واحد، والتنور بسر الوجود الذي قام به، وغير ذلك من مزاياه المقررة في مواضعها. هذا في الدنيا، وأما في الآخرة، فله الجزاء الأحسن والثواب الأوفى.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} [98- 100].
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}.
لما كان القرآن هو الذكر الحكيم والحق المبين، وكان لكل حق محارب وهو شيطان الجن أو الإنس يثير الشبهات بوساوسه، ويفسد القلوب بدسائسه؛ أمر صلى الله عليه وسلم بأن يستعيذ بالله ويلتجئ إليه، عند تلاوة القرآن، من وسوسته؛ لأن قوة الإنسان تضعف عن دفعه بسهولة، فيحتاج إلى الاستعانة عليه بالله واللياذ بجواره منه، وقد بينت آية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52]، أن هذه عادة الشيطان إثر ما يتلوه كل نبي على أمته من الأحكام المتجددة التي يوحى بها لسعادة البشر، أنه يحول عنها الأنظار، ويسعى لهدم ما أقيمت لأجله، وإن الله يحكم آياته وينسخ شبه الشيطان؛ ليحق الحق ويبطل الباطل. فلما كانت هذه عادته، ولها من الأثر ما لها، احتيج إلى الاستعاذة به تعالى منها، عند قراءة الوحي ونشر تعاليمه.
ثم بيَّن تعالى أن أثر وسوسته إنما يكون فيمن له سلطان عليهم. أي: تسلط وولاية من أوليائه المتبعين خطواته، وأما الذين آمنوا وتوكلوا على ربهم، فصبروا على المكاره ولم يبالوا بما يلقون في سبيل الجهاد بالحق من العثرات؛ فليس له عليهم سلطان. فهم يضادون أمانيه ويهدمون كل ما يلقيه؛ لأن إيمانهم يفيدهم النور الكاشف عن مكره، والتوكل على الله يفيدهم التقوية بالله، فيمنع من معاندة الشيطان وقوة تأثيره، و{الرجيم} من أوصاف الشيطان الغالبة، أي: الملعون المرجوم باللعنة أو المطرود أو المرجوم بالكواكب، والضمير في {به} لربهم والباء للتعدية، أو للشيطان، والباء للسببية، أي: بسببه وغروره ووسوسته، ورجح باتحاد الضمائر فيه، وأشار بعضهم إلى أن المعنى: أشركوه في عبادة الله تعالى، وكله مما يحتمله اللفظ الكريم ويصح إرادته.
تنبيه:
في الآية مشروعية الاستعاذة قبل القراءة، وهو شامل لحالة الصلاة وغيرها، وقال قوم بوجوبها لظاهر الأمر، وسرها في غيره صلى الله عليه وسلم: التحصن به تعالى أن لا يلبس الشيطان القراءة، وأن لا يمنع من التدبر والتذكر.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [101- 102].
{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}.
التبديل: رفع الشيء مع وضع غيره مكانه، فتبديل الآية: رفعها بآية أخرى، والأكثرون: على أن المعنى نسخ آية من القرآن لفظًا أو حكمًا بآية أخرى غيرها؛ لحكمة باهرة أشير إليها بقوله: {وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} من ناسخ قضت الحكمة أن يتبدل المنسوخ الأول به، وذهب قوم إلى أن المعنى تبديل آية من آيات الأنبياء المتقدمين، كآية موسى وعيسى وغيرهما من الآيات الكونية الآفاقية، بآية أخرى نفسية علمية، وهي كون المنزل هدى ورحمة وبشارة يدركها العقل إذا تنبه لها وجرى على نظامه الفطري، وذلك لاستعداد الإنسان وقتئذ؛ لأن يخاطب عقله ويستصرخ فمه ولبه. فلم يؤت من قبل الخوارق الكونية ويدهش بها كما كان لمن سلف. فبدلت تلك بآية هو كتاب العلم والهدى من نَبِيٍ أُمِّيِّ لم يقرأ ولم يكتب، وكون الكتاب بيِّن الصدق قاطع البرهان ناصع البيان بالنسبة لمن أوتي ورزق الفهم، وهذا التأويل الثاني يرجحه على الأول؛ أن السورة مكية، وليس في المكي منسوخ بالمعنى الذي يريدونه، وللبحث تفصيل في موضع آخر، وقد أشرنا إلى ذلك في آيتين من سورة البقرة في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا} إلخ. [البقرة: 23]، وقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106]، والمقصود أنه تعالى، لما رحم العالمين وجعل القرآن مكان ما تقدم، نسبوا الموحى إليه به إلى الافتراء؛ ردًا للحق، وعنادًا للهدى، وتوليًا للشيطان، وتعبدًا لوسوسته، وما ذاك إلا لجهلهم المتناهي، كما قال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} واعتراض قوله: {وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم.
ثم أمره تعالى بأن يصدع بالحق في شأنه بقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ} أي: القرآن المدلول عليه بالآية: {رُوحُ الْقُدُسِ} يعني جبريل عليه السلام. أضيف إلى القدس وهو الطهر، كما يقال: حاتم الجود، وزيد الخير، وخبر السوء، ورجل صدق والمراد: الروح المقدس، وحاتم الجود، وزيد الخيِّر، والخبر السيئ، والرجل الصادق، وإنما أضافوا الموصوف إلى مصدر الصفة للمبالغة في كثرة ملابسته له واختصاصه به، والمقدس: المطهر من الأدناس البشرية، وإضافة {الرب} إلى ضميره صلوات الله عليه في قوله تعالى: {مِن رَّبِّكَ}؛ للدلالة على تحقيق إفاضة آثار الربوبية، وقوله: {بِالْحَقِّ} أي: متلبسًا بالحق الثابت الموافق للحكمة التي اقتضاها دور عصره، وقوله تعالى: {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ} أي: على الحق ونبذ وساوس الشياطين، وفي قوله تعالى: {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} تعريض بحصول أضداد هذه الصفات لغيرهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [103].
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}.
يخبر تعالى عن المشركين في قولهم غير ما نقل عنهم قبل من المقالة الشنعاء، وكذبهم وبهتهم أن الرسول إنما يعلمه هذا الذي يتلوه من القرآن، بشر. يعنون رجلًا أعجميًا كان بين أظهرهم يقرأ في الكتب المتقدمة. ربما يتحدث معه النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا، وإنما لم يصرح؛ باسمه للإيذان بأن مدار خطئهم ليس بنسبته صلوات الله عليه إلى التعلم من شخص معين بل من البشر، كائنًا من كان. ثم أشار تعالى وضوح بطلان بهتهم، بأن لسان الرجل الذي ينسبون إليه التعليم أعجمي غير مبين، وهذا القرآن الكريم لسان عربي مبين، ذو بيان وفصاحة، ومن أين للأعجمي أن يذوق بلاغة هذا التنزيل، وما حواه من العلوم، فضلًا أن ينطق به، فضلًا أن يكون معلمًا له!.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [104- 105].
{إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} تهديد لهم على كفرهم بالقرآن، بعد ما أماط شبهتهم ورد طعنهم فيه.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ} رد لقولهم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} وقلب للأمر عليهم، ببيان أنهم هم المفترون لا هو. يعني: إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن، لأنه لا يخاف عقابًا يردعه عنه، وقوله تعالى: {وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} إشارة إلى الذين لا يؤمنون، ويدخل فيهم قريش دخولًا أوليًا. أي: الكاذبون في الحقيقة ونفس الأمر. أو الكاملون فيه؛ لأنه لا كذب أعظم من تكذيب آياته تعالى، والطعن فيها بأمثال هاتيك الأباطيل، ولا يخفى ما في الحصر، بعد القصر، من العناية بمقامه صلوات الله عليه، وقد كان أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علمًا وعملًا وإيمانًا وإيقانًا، معروفًا بالصدق في قومه، لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يُدْعى بينهم إلا بـ {الأمين محمد}، ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها، من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان فيما قال له: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس، ويذهب فيكذب على الله تعالى.
تنبيه:
في هذه الآية دلالة قوية على أن الكذب من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش، والدليل عليه: أن كلمة: {إِنَّمَا} للحصر، والمعنى: أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلا من كان غير مؤمن بآيات الله، وإلا من كان كافرًا، وهذا تهديد في النهاية.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: هل يكذب المؤمن؟ قال: لا. ثم قرأ هذه الآية. أفاده الرازي.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إِيْمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيْمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ} [106- 109].
{مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إِيْمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيْمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ}.
لما بيَّن تعالى فضل من آمن وصبر على أذى المشركين، في المحاماة عن الدين، تأثره ببيان ما للردة وإيثار الضلال على الهدى، من الوعد الشديد، بهذه الآيات، واستثنى المكره المطمئن القلب بالإيمان بالله ورسوله؛ فإنه إذا وافق المشركين بلفظ، لإيلام قوي وإيذاء شديد وتهديد بقتل، فلا جناح عليه. إنما الجناح على من شرح بالكفر صدرًا، أي: طاب به نفسًا واعتقده، استحبابًا للحياة الدنيا الفانية، أي: إيثارًا لها على الآخرة الباقية، فذاك الذي له من الوعيد ما بينته الآيات الكريمة، من غضب الله عليهم أولًا، وعذابه العظيم لهم، وهو عذاب النار ثانيًا، وعدم هدايتهم باختيارهم الكفر ثالثًا، ورابعًا بالطبع على قلوبهم بقساوتها وكدورتها. فلم ينفتح لهم طريق الفهم، وعلى سمعهم وأبصارهم بسد طريق المعنى المراد من مسموعاتهم وطريق الاعتبار من مبصراتهم إلى القلب. فلم يؤثر فيهم شيء من أسباب الهداية من طريق الباطن من فيض العلم وإشراق النور، ولا من طريق الظاهر بطريق التعليم والتعلم والاعتبار من آثار الصنع، وخامسًا بكونهم هم الغافلين بالحقيقة، لعدم انتباههم بوجه من الوجوه، وامتناع تيقظهم من نوم الجهل بسبب من الأسباب، وجليٌّ، أن كل نقمة من هذه الخمس، على انفرادها، من أعظم الحواجز عن الفوز بالخيرات والسعادات. فكيف بها كلها!.
قال الرازي: ومعلوم أنه إنما أدخل الإنسان الدنيا ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعاته سعادات الآخرة. فإذا حصلت هذه الموانع عظم خسرانه. فلهذا قال: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ} أي: الذين ضاعت دنياهم التي استنفدوا في تحصيلها وسعهم، وأتلفوا في طلبها أعمارهم، وليسوا من الآخرة في شيء إلا في وبال التحسرات.
تنبيهات:
الأول: {من} في قوله تعالى: {مَن كَفَرَ} موصول مبتدأ خبره: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} وقوله: {إِلَّا مَن أَكرِهَ} استثناء مقدم من حكم الغضب، وقوله: {وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} رجوع إلى صدر الآية وحكمها، بأسلوب مبين لمن كفر، موضح له. بمثابة عطف البيان أو عطف التفسير، وهذا الوجه من الإعراب لم أره لأحد، ولا يظهر غيره لمن ذاق حلاوة أسلوب القرآن.